الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الصابوني: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)} سورة البقرة.[1] موقف الشريعة من السحر:.التحليل اللفظي: {نَبَذَ}: النبذ: الطرح والإلقاء قال تعالى: {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم} [القصص: 40] ومنه النبيذ للشيء المسكر، وسميَ نبيذًا، لأن الذي يتخذه يأخذ تمرًا أو زبيبًا فينبذه في وعاء أو سقاء، ويتركه حتى يصير مسكرًا، والمنبوذُ: ولد الزنى، لأنهُ يُنْبذُ على الطريق، قال أبو الأسود.وقال آخر: {وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ}: هذا مثل يضرب لمن استخفّ بالشيء وأعرض عنه جملة، تقول العرب: جعل هذا الأمر وراء ظهره، ودبر أذنه، قال تعالى: {واتخذتموه وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} [هود: 92] وأنشد الفرّاء: {كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}: تشبيه لهم بمن يجهل، لأن الجاهل بالشيء لا يحفل به ولا يهتم، لأنه لا شعور له بما فيه من المنفعة.والمعنى: نبذوا كتاب الله وتركوا العمل به، على سبيل العناد والمابرة، كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله المنزّل على رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.{واتبعوا} الضمير لفريق من الذين أوتوا الكتاب وهم اليهود.قال الزمخشري: أي نبذوا كتاب الله واتبعوا ما تتلو الشياطين.والمراد بالاتباع: التوغّلُ والإقبال على الشيء بالكليّة، وقيل: الاقتداء.{تَتْلُواْ}: بمعنى تلت مضارع بمعنى الماضي، فهو حكاية لحال ماضية، قال الشاعر: أي فلقد كان.وتتلو يعني: تُحدّث، وتروي، وتتكلم به من التلاوة بمعنى القراءة.قال الطبري: ولقول القائل هو يتلو كذا في كلام العرب معنيان:أحدهما: الاتباع كما تقول: تلوت فلانًا إذا مشيت خلقه وتبعت أثره.والآخر: القراءة والدراسة كما تقول: فلان يتلو القرآن بمعنى أنه يقرؤه ويدرسه، كما قال حسان بن ثابت: والمعنى: طرحوا كتاب الله وراء ظهورهم، واتّبعوا كتب السحر والشعوذة التي كانت تقرؤها الشياطين وتحدّث وتروي بها في عهد سليمان.{الشياطين}: المتبادر من لفظ الشياطين أن المراد بهم مردة الجن، وبه قال بعض المفسرين وقال بعضهم: المراد بهم شياطين الإنس، والأرجح أن المراد بهم شياطين الإنس والجن كما قال تعالى: {شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُورًا} [الأنعام: 112].{على مُلْكِ سليمان}: أي على عهد مكله وفي زمانه، فهو على حذف مضاف.قال المبرّد: {على} بمعنى في أي في عهد ملكه، كما أنّ {في} بمعنى على كما في قوله تعالى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} [طه: 71] أي على جذوع النخل. سليمان اسم عبراني، وقد تكلمت به العرب في الجاهلية، واستعمله الحطيئة، اضطرارًا فجعله بلفظ سلاّم حين قال: قال الألوسي: وسليمان اسم أعجمي، وامتنع من الصرف للعلمية والعجمة، ونظيره هامان وماهان وشامان وليس امتناعه من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون.{السحر}: في اللغة: كلّ ما لطف مأخذه ودقّ، قال الأزهري: وأصل السّحر صرفُ الشيء عن حقيقته إلى غيره، فكأنّ الساحر لمّا أرى الباطل في سورة الحقّ، وخيّل الشيء على غير حقيقته، قد سحر الشيء عن وجهه اي صرفه.وقال الجوهري: والسّحر: الأُخْذةُ، وكلّ ما لُطف مأخذه، ودقّ فهو سحرٌ وسَحَره أيضًا بمعنى خدعه.وقال القرطبي: السّحر أصلُه التمويهُ بالحيل، وهو أن يفعل الساحر أشياء ومعاني، فيُخيّل للمسحور أنها بخلاف ما هي به، كالذي يرى السّراب من بعيد فيخيّل إليه أنه ماء، وهو مشتق من سحرتُ الصبي إذا خدعته، قال لبيد: وقال امرؤ القيس: وقال الألوسي: السّحر في الأصل مصدر سَحَر يسَحْر بفتح العين فيهما إذا أبدى ما يدّق ويخفى، وهو من المصادر الشاذة، ويستعمل بما لطف وخفي سببه، والمراد به أمر غريب يشبه الخارق. وفي الحديث: «إنّ من البيان لسحرًا».{فِتْنَةٌ}: الفتنةُ الاختبار والابتلاء، ومنه قولهم: فتنتُ الذهب في النار، إذا امتحنته لتعرف جودته من رداءته.قال الأزهري: جِماعُ معنى الفتنة: الابتلاء والامتحان، والاختبار، قال تعالى: {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 28] وقال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ} [العنكبوت: 3] أي اختبرنا وابتلينا.قال الجصّاص: الفتنةُ: ما يظهر به حال الشيء في الخير والشر، تقول العرب: فتنتُ الذهب إذا عرضته على النار لتعرف سلامته أو غشّه، والاختبار كذلك أيضًا لأن الحال تظهر فتصير كالمخبرة عن حالها.{فَلاَ تَكْفُرْ}: أي بتعلم السّحر واستعماله، وفي الآية إشارة إلى أنّ تعلم السّحر كفرٌ.قال الزمخشري: {فَلاَ تَكْفُرْ} أي فلا تتعلم السّحر معتقدًا أنه حق فتكفر.{بِإِذْنِ الله}: أي بإرادته ومشيئته، وفيه دليل على أن في السحر ضررًا مودعًا، إذا شاء الله تعالى حال بينه وبين المسحور، وإذا شاء خلاّه حتى يصيبه ما قدّره الله تعالى له، وهذا مذهب السلف في الأسباب والمسببات.{لَمَنِ اشتراه}: قال الألوسي: أي استبدل ما تتلو الشياطين بكتاب الله، واللام للابتداء وتدخل على المبتدأ وعلى المضارع، ودخولها على الماضي مع قد كثير، كقوله تعالى: {لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181].{خلاق}: الخلاقُ في اللغة بمعنى النصيب قال تعالى: {أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة} [آل عمران: 77] ويأتي بمعنى القدر قال الشاعر: قال الزّجاج: هو النصيب الوافر من الخير، وأكثر ما يستعمل في الخير، ويكون للشر على قلّة.{شَرَوْاْ}: أي باعوا أنفسهم به، يقال: شرى بمعنى اشترى، وشرى بمعنى باع من الأضداد، قال الشاعر: {لَمَثُوبَةٌ}: المثوبة: الثواب والجزاء، أي لثواب وجزاء عظيم من الله تعالى على إيمانهم وتقواهم. .المعنى الإجمالي: يخبر المولى جلّ ثناؤه أنّ أحبار اليهود وعلماءهم نبذوا كتابه الذي أنزله على عبده ورسوله موسى عليه السلام وهو التوراة، كما نبذ أحفادهم الكتاب الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن، مع أنّ الرسول جاء مصدّقًا لما بين أيديهم من التوراة، فلا عجب أن يكون الأحفاد مثل الأجداد، في الاستكبار والعناد، فهؤلاء ورثوا عن أسلافهم البغي، والإفساد، والعناد.لقد نبذ أولئك كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله المنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم واتبعوا طرق السحر والشعوذة التي كانت تحدّثهم بها الشياطين في عهد ملك سليمان، وما كان سليمان عليه السلام ساحرًا، ولا كفر بتعلمه السحر، ولكنّ الشياطين هم الذين وسوسوا إلى الإنس وأوهموهم أنهم يعلمون الغيب، وعَلَّموهم السحر حتى فشا أمره بين الناس.وكما اتبّع رؤساء اليهود السحر والشعوذة كذلك اتّبعوا ما أُنزل على الرجلين الصالحين، أو الملكَيْن: هاروت وماروت بمملكة بابل، فقد أنزلهما الله تعالى إلى الأرض، لتعليم السحر، ابتلاءً من الله للناس، وما يعلّمان السّحر من أجل السّحر، وإنّما من أجل إبطاله، ليُظْهرا للناس الفرق بين المعجزة والسّحر، ولله أن يبتلي عباده بما شاء، كما امتحن قوم طالوت بالنهر، وقد كثر السحر في ذلك الزمان، وأظهر السّحَرة أمورًا غريبة وقع بسببها الشكّ في النبوّة، فبعث الله تعالى المكلَين لتعليم أبواب السحر، حتى يزيلا الشّبَه، ويميطا الأذى عن الطريق.. ومع ذلك فقد كانا يحذّران الناس من تعلّم السحر واستخدامه في الأذى والضرر، وكانا إذا علَّما أحدًا قالا له: إنما هذا امتحان من الله وابتلاء فلا تكفر بسببه واتّق الله فلا تستعمله في الإضرار، فمن تعلّمه ليتوقّى ضرره ويدفع أذاه عن الناس فقد نجا وثبت على الإيمان، ومن تعلّمه معتقدًا صحته ليُلحق الأذى بالناس فقد ضلّ وكفر، فكان الناس فريقين: فريق تعلّمه عن نيّة صالحة ليدفع ضرره عن الناس، وفريق تعلّمه عن نيّة خبيثة ليفرّق به بين الرجل وأهله، وبين الصديق وصديقه، ويوقع العداوة والبغضاء بين الناس، وهؤلاء قد خسروا دنياهم وآخرتهم، لأنهم عرفوا أنّ من تجرّد لهذه الأمور المؤذية، ما له في الآخرة من نصيب ولبئسما باعوا به أنفسهم لو كان عندهم فهم وإدراك.ولو أن هؤلاء الذين يتعلمون السحر آمنوا بالله، وخافوا عذابه، لأثابهم الله جزاء أعمالهم مثوبة أفضل ممّا شغلوا به أنفسهم، من هذه الأمور الضارّة التي لا تعود عليهم إلا بالويل والخسار والدمار..سبب النزول: قال ابن الجوزي رحمه الله: في سبب نزول هذه الآية قولان:أحدهما: أن اليهود كانوا لا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء من التوراة إلاّ أجابهم، فسألوه عن السحر وخاصموه به فنزلت هذه الآية، قاله أبو العالية.والثاني: أنه لما ذكر سليمان في القرآن قالت يهود المدينة: ألا تعجبون لمحمد يزعم أن ابن داود كان نبيًّا؟ والله ما كان إلا ساحرًا فنزلت هذه الآية: {وَمَا كَفَرَ سليمان ولكن الشياطين كَفَرُواْ} ذكره ابن إسحاق..وجوه القراءات: أولًا: قوله تعالى: {ولكن الشياطين كَفَرُواْ}.قرأ الجمهور: {ولكنّ الشياطينَ} بتشديد نون لكنّ ونصب نون الشياطين وقرأ حمزة والكسائي: {ولكن الشياطينُ} بتخفيف النون من {لكن} ورفع نون {الشياطين}.ثانيًا: قوله تعالى: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الملكين}.قرأ الجمهور: {المَلَكَيْن} بفتح اللام والكاف مثنّى مَلَك وقرأ ابن عباس، وسعيد بن جبير {الملِكَيْن} بكسر اللام مثنّى ملِك قال ابن الجوزي: وقراءة الجمهور أصح.قال القرطبي: وحُكي عن بعض القرّاء أنه كان يقرأ: {وما أُنْزل على الملِكَيْن} يعني به رجلين من بني آدم.ثالثًا: قوله تعالى: {هاروت وماروت} قرأ الجمهور بفتح التاء قرأ الحسن والزهري برفعهما على تقدير هما هاروتُ وماروتُ..وجوه الإعراب: أولًا- قوله تعالى: {واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين} الواو للعطف، و{واتبعوا} معطوف على قوله تعالى: {نَبَذَ فَرِيقٌ} من عطف الجملة على الجملة، والضمير في {واتبعوا} لليهود، و{مَا} اسم موصول مفعول به و{تَتْلُواْ} صلة الموصول و{الشياطين} فاعل مرفوع وهو إخبار عن حالهم في اتباعهم ما لا ينبغي أن يتبّع، لأن الاتباع ليس مترتبًا على مجيء الرسول، بخلاف نبذ كتاب الله فإنه مترتب على مجيء الرسول.ثانيًا- قوله تعالى: {يُعَلِّمُونَ الناس السحر وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الملكين} جملة {يُعَلِّمُونَ الناس السحر} في محل نصب على الحال من الضمير في {كَفَرُواْ} أي كفروا معلميّن الناس السحر، وقيل: هو بدل من {كَفَرُواْ} لأن تعليم السحر كفر في المعنى و{مَا أُنْزِلَ} اسم الموصول {مَا} معطوف على {مَا تَتْلُواْ} فهو في موضع نصب، والمعنى: اتبعوا ما تتلوه الشياطين، واتبعوا ما أُنزل على الملكين، وقيل: {مَا أُنْزِلَ} ما: نافية أي لم ينزل على الملكين، قال ابن الأنباري: وهذا الوجه ضعيف جدًا، لأنه خلاف الظاهر والمعنى، فكان غيره أولى.ثالثًا: قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خلاق}.اللام في {لَمَنِ اشتراه} لام الابتداء، ومَنْ بمعنى الذي في موضع رفع لأنه مبتدأ، وخبره جملة {مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خلاق} و{مِنْ} في قوله: {مِنْ خلاق} زائدة لتأكيد النفي، وتقديره: ما له في الآخرة خلاق.
|